ثورة في الحقن المجهري باستخدام الذكاء الاصطناعي

بقلم: الدكتور حاتم الجمل رئيس قسم أمراض النساء والتوليد كلية الطب جامعة عين شمس

كتب ،

لقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة تطورًا غير مسبوق في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتي بدأت تدخل بقوة إلى العديد من التخصصات الطبية، وكان لها أثر بالغ في تغيير المفاهيم العلاجية والتشخيصية. ومن أبرز المجالات التي استفادت بعمق من هذه الطفرة العلمية هو مجال الحقن المجهري وعلاج العقم.
من واقع تجربتي كأستاذ ورئيس لوحدة الحقن المجهري بكلية الطب جامعة عين شمس، أستطيع أن أؤكد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية مستقبلية أو وسيلة إضافية، بل أصبح اليوم عنصرًا أساسيًا في رفع جودة عمليات الإخصاب المساعد، وزيادة فرص الحمل الناجح.
تقييم جودة البويضات: دقة تتجاوز العين البشرية
في السابق، كان تقييم جودة البويضات يتم اعتمادًا على الفحص المجهري البصري، وهو أمر كان يتوقف إلى حد كبير على خبرة الطبيب أو الأخصائي. أما اليوم، فقد أتاحت تقنيات الذكاء الاصطناعي تحليل صور البويضات بشكل أعمق، باستخدام خوارزميات دقيقة تستطيع تقييم:
• سلامة السيتوبلازم.
• انتظام النواة.
• شكل الغشاء الخارجي.
• وجود مؤشرات غير مرئية للعين المجردة.
هذه المعطيات تُساعدنا في اختيار البويضات ذات الفرصة الأعلى للنجاح، وتُقلل من نسبة الفشل المبكر في الإخصاب.
اختيار الحيوان المنوي الأفضل: علم يتجاوز الاحتمالات
واحدة من أصعب خطوات الحقن المجهري هي اختيار الحيوان المنوي الأنسب لحقنه داخل البويضة. وهنا لا تقتصر المسألة على الشكل والحركة فحسب، بل تشمل أيضًا مؤشرات حيوية دقيقة مثل:
• درجة تكسّر الحمض النووي.
• التناسق الهيكلي.
• القدرة على اختراق الغشاء الخارجي للبويضة.
حيث تم دمج تقنيات التكبير المجهري العالي (IMSI) مع نظم الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للبرنامج تحليل آلاف الصور والفيديوهات خلال ثوانٍ معدودة، واختيار الحيوان المنوي ذو الجودة الأفضل بناءً على معايير واضحة وعلمية. وهذا، بطبيعة الحال، يُحسّن احتمالات الإخصاب ويُقلل من فرص فشل التلقيح.
مراقبة الأجنة بتقنية Time-Lapse: ثورة في المتابعة والتقييم
من أكثر الابتكارات تأثيرًا في السنوات الأخيرة هي تقنية التصوير الزمني المستمر (Time-Lapse Imaging)، والتي نستخدمها لمراقبة تطور الأجنة داخل الحاضنات بشكل لحظي دون الحاجة لإخراجها أو تعريضها لعوامل خارجية.
عند دمج هذه التقنية مع الذكاء الاصطناعي، نحصل على تحليل شامل لنمو كل جنين، بداية من الانقسام الأول وحتى مرحلة التوتة أو الكيسة الأريمية. ومن خلال نماذج التعلّم الآلي، نستطيع:
• توقع الأجنة التي تملك أعلى فرصة للانغراس في الرحم.
• رصد الانقسامات غير الطبيعية مبكرًا.
• تصنيف الأجنة بشكل موضوعي بعيدًا عن التقييم البشري المتفاوت.
لقد لاحظنا، بناءً على الدراسات التطبيقية، أن استخدام هذه التقنيات زاد من معدل الحمل السريري بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30% مقارنة بالتقييم التقليدي.
تحديد توقيت الزرع: قرارات مبنية على بيانات دقيقة
في بعض الحالات، يتم إجراء فحوصات جينية للأجنة (PGT) قبل الزرع، لتجنب نقل أجنة حاملة لخلل كروموسومي قد يؤدي إلى فشل الحمل أو الإجهاض المبكر. وهنا يُساعد الذكاء الاصطناعي في تحليل هذه النتائج وربطها بمعايير أخرى مثل:
• سمك بطانة الرحم.
• توقيت الإباضة.
• مستوى الهرمونات.
• استجابة المبيض للبروتوكولات السابقة.
وبالتالي، نستطيع تحديد اليوم الأمثل لنقل الجنين بدقة، مما يزيد من فرص انغراس الجنين واستمرار الحمل بشكل سليم.
نماذج تنبؤية فردية: لكل مريضة علاجها المناسب
بفضل قواعد البيانات الضخمة التي أتاحتها البحوث والتجارب السريرية، بات بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يُقدّم نماذج تنبؤية لفرص النجاح بناءً على الحالة الفردية لكل مريضة. حيث يتم إدخال:
• عمر الزوجة.
• مؤشر كتلة الجسم.
• نتائج التحاليل الهرمونية.
• محاولات العلاج السابقة.
• جودة البويضات والحيوانات المنوية.
ثم يُقدم النظام توصيات دقيقة بشأن نوع البروتوكول، الجرعة المثالية، وتوقيت التحفيز. وهذا النوع من العلاج المخصص يُقلل من التجربة والخطأ، ويوفّر على المريضة الوقت والتكلفة النفسية والمالية.
هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الطبيب؟
أؤكد وبكل وضوح الذكاء الاصطناعي لا ولن يحل محل الطبيب.
إنه أداة قوية تدعم القرار الطبي، لكنه لا يمتلك الإحساس الإنساني، ولا يُمكنه التعامل مع الحالات النفسية الدقيقة، ولا يُجري الإجراءات بيديه. النجاح في هذه الرحلة لا يأتي من التكنولوجيا وحدها، بل من تكامل الخبرة البشرية مع العلم الحديث، وهذا هو جوهر فلسفتنا العلاجية.
المستقبل القريب: المزيد من التخصيص، والمزيد من الدقة
نحن على أعتاب مرحلة جديدة كليًا في مجال علاج العقم، ستشهد تطورات مثل:
• حاضنات ذكية تُتابع الأجنة بشكل ذاتي.
• تحليل جيني متقدم بمساعدة الذكاء الاصطناعي لتحديد الاستعداد الوراثي للعقم.
• دمج الذكاء الاصطناعي في مراحل ما قبل العلاج، مثل تحديد تأثير التغذية، الوزن، والنمط الحياتي على فرص الحمل.
إن هذه التغيرات لن تقتصر على زيادة نسب النجاح فقط، بل ستجعل رحلة العلاج أكثر إنسانية، وأقل إجهادًا، وأكثر دقة وخصوصية.
في الختام… يمكننا القول أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن الطبيب، بل هو شريك علمي دقيق، يُسهم في رفع معدلات النجاح، وتقليل الأخطاء، وتقديم أفضل تجربة علاجية ممكنة للزوجين الباحثين عن الأمل.
ونحن نحرص دومًا على استخدام هذه التقنيات ضمن إطار علمي صارم، مع الحفاظ على التواصل الإنساني والعناية الشاملة بكل مريض ومريضة.
فالأمل لا ينفصل عن العلم، والتكنولوجيا حين تُسخّر لخدمة الإنسان، تكون أداة للرحمة قبل أن تكون وسيلة للإنجاز.

زر الذهاب إلى الأعلى